مدونة افتكار

صديقي رمضان، علي الطنطاوي

نتيجة بحث الصور عن ‪ramadan night‬‏

صديقي رمضان

الشيخ / على الطنطاوي

 

مقال لأديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ، والذي نُشر منذ سبعين عاما ( نشره في 24 رمضان سنة 1358هـ الموافق 6 نوفمبر 1939م بمجلة الرسالة عدد 331 ) وكان وقتها بالعراق ، ليجيب فيه عن تساؤل : أين أنت يا صديقي رمضان ؟

صديقي رمضان ..

صديق عزيز ، لقيته وأنا طفل في دمشق ، ثم افتقدته وأنا شاب أذرع الأرض وأضرب في بلاد الله ، ففرحت بلقائه وأحببته ، وأَلَمَّت لفقده وازداد حنيني إليه ، فأين أنت يا صديقي رمضان ؟
كنت أَرْقُب قدومه ، وأحسب له الأيام والليالي على مقدار ما يُحسن طفل من الحساب ، فإذا جاء فرحت به وضحكت له روحي لأني كنت أرى الدنيا تضحك له وتفرح بقدومه .
كنت أبصره في المدرسة ، فالمدرسة في رمضان مسجد ، ودرسها تلاوة وذكر ، وأهلوها أحبة ، ما فيهم مدرّس يقسو على طلاب ، وطلاب يكرهون المدرس ، لأن رمضان وصل النفوس بالله فأشرق عليها من لدنه النور فذاقت حلاوة الإيمان ، ومن ذاق حلاوة الإيمان ، لم يعرف البغض ولا الشرّ ولا العُدوان .
كنت أراه في الأسواق ، فالأسواق تعرض بضاعة رمضان وتفيض عليها روح رمضان فتمحو الغش من نفوس أهلها محوًا ويملؤها خوف الله ورجاؤه ، وتقف ألسنتهم عن الكذب لأنها جرت بذكر الله واستغفاره ، وهانت عليهم الدنيا حين أرادوا الله والدار الآخرة ، فغدا الناس آمنين أن يغشهم تاجر ، أو يخدعهم في مال أو متاع ، ويمضى النهار كله على ذلك ، فإذا كان الأصيل ودنا الغروب تجلى رمضان على الأسواق بوجهه فهشت له وجوه الناس ، وهتفت باسمه ألسن الباعة ، فلا تسمع إلا أمثال قولهم : (( الصايم في البيت بركة )) – (( الله وليك يا صايم )) – (( الله وليك ومحمد نبيك )) ثم لا ترى إلا مسرعًا إلى داره حاملاً طبق (( الفول المدمس )) أو (( المسبحة )) أو سلال الفاكهة أو قطع (( الجرادق )) [ أطباق جافة رقيقة وكبيرة تصنع من مواد خاصة يرش عليها الدبس ولا تصنع إلا في رمضان ] ، ثم لا تبصر إلا مراقبًا المنارة في دمشق ذات الثمانين منارة ، أو منتظرًا المدفع ، فإذا سمع صيحة المؤذن أو طلقة المدفع دخل داره ، والأطفال يجتمعون في كل رحبة في دمشق ليسمعوها فيصيحوا : أذن .. أذن .. أذن .. ثم يطيروا إلى منازلهم كالظباء النافرة .
وكنت أبصر رمضان يؤلف بين القلوب المتباينة ، ويجلو الأخوة الإسلامية رابطة المسلم أخي المسلم فتبدو في أكمل صورها فيتقابل الناس عند الغروب تقابل الأصدقاء على غير معرفة متقدمة فيتساءلون ويتحدثون ثم يتبادلون التمر والزبيب ويقدمون الفطور لمن أدركه المغرب على الطريق فلم يجد ما يفطر عليه ، تمرة أو حبة من زبيب ، هينة في ذاتها ، تافهة في ثمنها ، ولكنها تنشئ صداقة وتدل على عاطفة ، وتشير إلى معنى كبير .
وكنت أنظر إلى رمضان وقد سكَّن الدنيا ساعة الإفطار ، وأراح أهلها من التَّكالب على الدنيا والازدحام على الشهوات ، وضم الرجل إلى أهله ، وجمع الأسرة على أحلى مائدة وأجمل مجلس وأنفع مدرسة . فواشوقاه إلى موائد رمضان وأنا الغريب الوحيد في مطعم لا أجد فيه صائمًا ولا أسمع فيه أذانًا ولا أرى فيه ظلاً لرمضان .
فإذا انتهت ساعة الإفطار ، بدأ رمضان يظهر في جلاله وجماله وعظمته المهولة في المسجد الأموي أجل مساجد الأرض اليوم وأجملها وأعظمها ، وكنت أذهب إلى المسجد بعد المغرب وأنا طفل فأراه عامرًا بالناس ممتلئًا بحلق العلم كما كان عامرًا بهم ممتلئًا بها النهار بطوله ، فأجول فيه مع صديقي سعيد الأفغاني خلال الحلقات نستمع ما يقول المدرسون والوعاظ ، وأشهد ثريّاته وأضواءه وجماعاته ، ومن صنع الله لهذا المسجد أن صلاة الجماعة لا تنقطع فيه خمس دقائق من الظهر إلى العشاء الآخرة في أيام السنة كلها وقد بقى ذلك إلى اليوم على ضعف الدين في أيام النفوس وفساد الزمان ..
وإن أنس لا أنس تلك الثريا الضخمة ولم يكن قد مدَّ إليها الكهرباء ، فكانت توقد مصابيحها وهي أكثر من ألف بالزيت واحدًا بعد واحد يشعلها الحكيون [ الحكي الخادم الأموي ، كلمة شامية ولعلها من الحكة ومعناها بلغة المغرب : الشمعدان ] ، وهم يطيفون بها على سلاليم قصيرة من الخشب فيكون لذلك المشهد أثر في النفس واضح ، ثم يكون العشاء وتقوم من بعده التراويح ولها في الأموي منظر ما رأيت أجلّ منه ولا أعظم إلا صلاة المغرب حول الكعبة في مسجد الله الحرام فإن ذلك يفوق الوصف ، ولا يعرف قدره إلا بالعيان .
وليس يقلّ من يصلى التراويح في الأموي عن خمسة آلاف أصلاً ، وقد يبلغون في الليالي الأواخر الخمسة عشر والعشرين أصلاً ، وقد يبلغون في الليالي الأواخر الخمسة عشر والعشرين ألفًا ، وهو عدد يكاد يشكّ فيه من لم يكن عارفًا بحقيقته ولكنه الواقع ، يعرف ذلك الدماشقة ومن رأى الأموي من غيرهم . وحدّث عن الليالي الأواخر ( في دمشق ) ولا حرج ، وبالغ ولا تخش كذبًا ، فإن الحقيقة توشك أن تسبقك مبالغة ، تلك هي ليالي الوداع يجلس فيها الناس صفوفًا حول السدّة بعد التراويح ، ويقوم المؤذنون والمنشدون فينشدون الأشعار في وداع رمضان بأشجى نغمة وأحزنها ثم يردِّد الناس كلهم : يا شهرنا ودعتنا عليك السلام ! يا شهرنا هذا عليك السلام ، ويتزلزل المسجد من البكاء حزنًا على رمضان .
* * *
وسَحَر رمضان ! إنه السِّحر الحلال ، إنه جنة النفس ونعيمها في هذه الدنيا ، وإني لأقنع من جنات الفردوس أن تكون مثل سَحر رمضان ، فأين ذهب رمضان ؟ وأنِّي لى بأن تعود أيامي التي وصفت لأعود إليه ؟
ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى * * * والعيش بعد أولئك الأيام
إني لا أشتهي شيئًا إلا أن أعود طفلاً صغيرًا لأستمتع بجوّ المسجد في رمضان وأنشق هواءه وأتذوق نعيمه . لم أعد أجد هذا النعيم ، وما تغيَّرت أنا أفتغيرت الدنيا ؟
إني لأتلفت أفتش في غربتي عن رمضان فلا ألقاه لا في المسجد ولا في السوق ولا في المدرسة ، فهل مات رمضان ؟ إذن فإنا لله وإنا إليه راجعون
لقد فقدت أنس قلبي يوم فقدت أمّى ، وأضعت راحة روحي يوم افتقدت رمضان ، فعلى قلبي وأمي ورمضان وروحي رحمة الله وسلامه !