مدونة افتكار

10 قواعد للقراءة

كتبها/ أحمد سالم

عن موقع الجزيرة نت

 

 

تقديم قائمة من القواعد في المجالات الإنسانية والحياتية= لا يهدف إلى تقديم قوانين معيارية؛ وإنما يهدف إلى تكثيف مجموعة من الخبرات والتجارب في شكل عبارات موجزة تستمد قيمتها من ثقتك بقائلها، لكن هذه القيمة تظل مرهونة بأن تقوم بتجربة هذه القواعد فتجدها صالحة لك؛ لأنه لا ضمانة لشمول نفع هذه القواعد لكل أحد.

هذا هو القول الوسط في موضوع تبادل الخبرات والنصائح الإنسانية والحياتية، بعيدا عن تطرف من يبالغ في نسبية الأمور حتى يُفقد الاشتراك الإنساني والحياتي قيمته، وبعيدا عن تطرف مقابل يريد أن يجعل من تجربته قانونًا للناس ومعيارًا للحق والصواب.

وقد اخترت أن أجعل قائمة قواعدي التي أضمنها هذا المقال متعلقة بموضوع القراءة، ويمكنني سردها فيما يلي:

لا تمل من تأخر شعورك بثمرة ما تقرأ، فالقراءة من أجل البناء الثقافي والفكري وتوفير مادة للفهم وأداة للفعل= قد لا تنتج ثمرتها هذه إلا بعد أعوام.

القاعدة الأولى: ليس هناك شيء إلا والقراءة تعين على إدراكه.
ومعنى هذه القاعدة: أن القراءة رافد أساسي من روافد المعرفة والفهم والإدراك؛ فلا يمكن في عالمنا المعاصر تحصيل معرفة تامة بدون القراءة، وسيظل كل نشاط لتحصيل الثقافة والمعرفة ليست القراءة ركنًا فيه= نشاطًا ناقصًا يجعل صاحبه أسيرًا للابتسار والاختزال المسيطر على معظم قنوات المعرفة الأخرى، ومهما احتاجت مجالات شتى لوسائل إدراك غير القراءة= ستظل القراءة تشكل جزءًا مهمًا من إدراك هذه المجالات نفسها مع احتياج القراءة لمساعدة من وسائل أخرى.
القاعدة الثانية: هناك أشياء كثيرة لا تكفي القراءة لتمام إدراكها.
في الوقت نفسه: القراءة لا تكفي لفهم العالم، وإدراك الأشياء، وفي الدنيا أبواب شتى وفروع مختلفة لا يمكن إدراكها إدراكًا تامًا أو سليمًا بواسطة القراءة فحسب، فللكتب خياناتها التي لا يمكن إدراكها إلا بأن تنزل من برجها العاجي؛ لكي تذوق الحياة في تركيبها وتعقيداتها.

فالكتاب خير جليس وصديق، هذا ما أخبروك به، لكنهم لم يخبروك أن هذا الصديق يكذب أحياناً، ويغدر أحياناً، ويخدع أحياناً.

وأخطر خياناته تلك: أنه يوهمك أنك انغمست في النهر الذي يحكى لك عنه، فتسير أنت مخدوعاً مختالاً تحدث الناس بجرأة وثقة. فقط ليسخر منك بحار لم يقرأ كتاباً قط، لكنه خاض النهر بالفعل.
القاعدة الثالثة: كثرة القراءة لا تفيدنا، دون تفكير وتأمل وربط بين الأفكار والمعلومات.
يقول بيجوفيتش “هناك أناس يكدسون المعارف في عقولهم من دون أن تتسع رؤيتهم؛ فهذا الاتساع لا يتحقق إلا من خلال الأفكار.. بعض الناس يلتهمون الكتب من دون الوقفات الضرورية للتفكير، هذه الوقفات ضرورية من أجل هضم المقروء ومعالجته، من أجل استيعابه وإدراكه.. إن القراءة تقتضي إسهام القارئ فيما يقرأ، ويحتاج هذا إلى وقت، كالنحلة تُحول الرحيق في بطنها إلى عسل”.

الحصيلة المعلوماتية يكفي لتحصيلها مواصلة القراءة والاطلاع الثقافي من غير درس منهجي لتحصيل الأدوات، ولكنها لن تفيدك أكثر من كونها معلومات مفرقة ربما تصلح في مسابقات من سيربح المليون، أو تصلح للزهو في المجالس.

لكن التفكير الدائم والتأمل المتصل، وتبادل الأفكار والمناقشة مع القراء المتميزين= كل ذلك هو الذي يفتح الباب لربط هذه المعلومات وتكوين قوالب متماسكة من الأفكار، وإن كانت قوة هذه الأفكار رهينة بعد ذلك بخطوتين أساسيتين:
(1) الدرس المنهجي الذي يقصد إلى ضبط أدوات ومفاتيح العلم أو المجال المراد إنتاج الأفكار فيه.
(2) مداومة الاطلاع المخلوط بالتأمل النقدي على كتابات المبدعين والمجددين وأصحاب النقلات المحورية في العلم المراد إنتاج الأفكار فيه.

وتزداد القدرة على إنتاج الأفكار بزيادة الاطلاع الثقافي خارج مجال العلم المراد إنتاج الأفكار فيه.
وهذه كله يقع في مرتبة دون المرتبة العليا التي يطمح لها المثقف وهي القدرة على صياغة منهج النظر والذي يليه صياغة رؤية منهجية مترابطة ومتكاملة.

وهذه أشق المراتب وأعسرها ولا تُنال إلا بطول الزمان وتكرار النظر ومداومة البناء والهدم وإعادة التشكيل مع التواصل والحوار والصبر التام والانقطاع التام.

والحقيقة إن التأمل وتكرار النظر وتقليب وجوه الرأي هو الأداة الأهم لإنتاج الأفكار وصياغة المنهج.

القاعدة الرابعة: لا تستعجل النتيجة.
لا تمل من تأخر شعورك بثمرة ما تقرأ، فالقراءة من أجل البناء الثقافي والفكري وتوفير مادة للفهم وأداة للفعل= قد لا تنتج ثمرتها هذه إلا بعد أعوام، وقد ذكر الدكتور سلمان العودة مثلًا جميلًا عن أحد مشايخه لما اشتكى له من تأخر الشعور بالثمرة، حيث شبه له شيخه القراءة بلقيمات الطعام، قد لا تشعر بفائدتها المباشرة، لكنها تغذي جسدك وتقوي صلبك حتى يستتم بنيانه على مر السنين، فتجد الثمرة وإن كنت قد تغفل عن أن أصلها هو هذه اللقمة.
القاعدة الخامسة: اسأل نفسك قبل أن تقرأ أي كتاب سؤالين: ماذا أعرف، وماذا أريد أن أعرف؟

عند تعاملك مع أي مادة مقروءة سواء كان ذلك بغرض الفائدة الثقافية أو حتى من مواد الدراسة والعمل= اسأل نفسك هذه السؤالين بعد معرفة موضوع المادة: ماذا أعرف عن هذا الموضوع، وما الأسئلة التي في ذهني عنه ولا أعرف جوابها؟

إن هذا أشبه ببناء هيكل للمعرفة يسمح لك بدرجة استفادة أكبر بكثير من الدخول الغافل الذي اعتاده الناس. وهذه الأسئلة سيتم تكميلها بعد ذلك بأسئلة ثلاثة أخرى: ما الأسئلة التي أثارها فيك الكتاب وأجابها، وما الأسئلة التي أثارها ولم يجبها، وما الأسئلة التي كانت معك وتبقت بلا جواب.

إن الأسئلة الخمسة والحرص عليها في معظم قراءاتك (لأنه لابد أن يبقى للفوضى مكان أيضًا)= يساعدك إلى حد كبير على تحصيل أكبر فائدة من عملية القراءة.
القاعدة السادسة: اجعل التاريخ وعاء لمعارفك ومفتاحًا لقراءاتك.
الإنسان ركنان: الدين والبيان. فالبشر كلهم تتشكل حياتهم من منظومات من الأفكار تحدد قيم العيش ومعاييره، وتشكل رؤيتهم للكون وما يجب فعله فيه، وهي التي نسميها هنا بالدين.

والركن الثاني هو البيان أو الطريقة التي يعبر بها البشر عن أنفسهم وعن حياتهم وعن آمالهم وآلامهم، فالقدرة على الإبانة وتبادل هذه الإبانة والإبداع فيها وتشكيل الطرائق المختلفة لها= هي الخصيصة الأعظم لبني الإنسان.

والتاريخ هو الوعاء الذي يندرج فيه الإنسان ودينه وبيانه، وواحدة من أعظم الطرق لتحصيل الفائدة من القراءة، أن تجعل التاريخ وعاء لمعارف ومفتاحًا للقراءة، فيكون تحصيلك لمادة معلوماتية أساسية عن تاريخ العالم والناس وأديانهم وأفكارهم وسياساتهم وحربهم وسلمهم وثقافاتهم وآدابهم وعاداتهم= هو الإطار الأساسي الذي تنتظم فيه قراءاتك وترتب معارفك داخل دولابه.
القاعدة السابعة: كن شجاع الرأي جبان القول.
لا تقرأ قراءة المستسلم كأنما هو وعاء يصب فيه القول صبًا فيعتقد ما يسبق لعقله، جرب أن تفكر، وأن تعترض، وأن تُقيم نفسك حكمًا بين الآراء، قاضيًا توازن بينها بلا وكس، ولا شطط. وبالتوازي: استكمل أدواتك العلمية، وواصل القراءة والاطلاع.

كثيرًا ما يقابلني نموذج من يقرأ كتاباً فيُغير بنسبة كبيرة تصوراته أو رأيه عن موضوع ما أو شخص ما أو طائفة ما.

انتفاعك من الكتب إنما هو بقدر حصيلتك من المعرفة والوعي. الكتب المهمة والمؤسِسة يتناسب انتفاعك بها -زيادة ونقصًا- مع المحصول الثقافي.

لا شك أن عملية التغيير المبنية على المعلومات إيجابية، وهي أحسن من التغيرات المبنية على ردود الأفعال، لكن موضع الإشكال في أمرين:
الأول: أن غالب التصورات التي يتم تغييرها بهذه الصورة تكون من البداية تصورات هشة ناقصة بنيت على معرفة ناقصة أو تفكير مجرد أو ناقص عن المعلومات، وبالتالي الذي ينبغي أن يستدعي الانتباه: لماذا أصلا بنيت تصورا دون دراسة كافية؟
الثاني: ما الذي يدريك أنك لو قرأت كتاباً آخر سيعود لتغيير هذا المتغير بصورة أكبر؟
بعبارة أخرى: ألا يمكن القول: إنك تواصل في نفس الطريق الخطأ، وتعود مرة أخرى لبناء التصور والرأي على معلومات ناقصة هي حصيلة ما جمعته من هذا الكتاب الجديد؟

والصواب: هو ما أشرت له من قبل من ترك التعجل في بناء التصورات ما دمت لست مضطراً لبناء تصور، وإلى أن يستوي منهجك في التفكير، وإلى أن تجمع المعلومات الكافية عن الموضوع الذي تريد تكوين رأي حوله= لا تستعجل الاقتناع بالأفكار، وقف منها دائمًا موقف القاضي الذي يؤجل القضية لمزيد من الاطلاع، فإذا اطمئننت للرأي ووثقت به فلا بأس حينها.

 

لكن نصيحتي حتى بعد ذلك: كن شجاعَ الرأي، جبانَ القول، بمعنى: فكر بمنتهى الحرية، ولكن بين جَنبات صدرك، أو مذاكرات ضيقة جدًا لأَخلص أصحابك وأعقلهم، ولا تنطق بشيء من هذا قط تماري به وتجادل.

واستمرار حالة الرأي الشجاع بالتوازي مع استكمال الأدوات هو الذي يصنع العقل الناقد، واستصحاب جبن القول وعدم الجرأة على التكلم في الدين قبل استكمال الأدوات هو الذي يصنع الشخصية العلمية الحذرة، شخصية الأمين الذي يخشى أن يحمل الناسُ عنه رأيًا فَطيرًا لم يُتمه.
والجمع بين هاتين هو الذي يصنع العقول المبدعة.

القاعدة الثامنة: استرشد بالنصائح، ولكن مع ذلك: اصنع ذوقك أنت.

بعض الناس يناصب قوائم القراءة العداء، يعتبر نصائح القراءة الأكثر تقدمًا نوعًا من الوصاية، بلا شك هذه نظرة خاطئة، والثقافات العالمية في حاضرنا وفي التاريخ أيضًا لا تخلو من هذه القوائم كوسيلة لتبادل الخبرة، ولا شك أن هناك قدرًا من التحيز يكمن في أية قائمة، وضريبة لا بد أن يتحملها كل من هو في طريق بناء الذوق وأداة التقييم الخاصة به.

وهذا هو ما أقصده بهذه القاعدة: لا بد أن تدرب نفسك على بناء ذوقك أنت، لست بحاجة لنصيحة قبل كل كتاب، جرب بنفسك، لا بأس من قراءة الكتب الرديئة أحيانًا، فالاقتصار على الكتب الجيدة هي كما قال العقاد قديمًا: هو كالاقتصار على الطعام الممتاز يجعلك عرضة للمرض مع أية وجبة يعرض لها خلل ما.

يقول هنري ميللر “رأيي أن على كل إنسان أن يضع أسسه الخاصة به، وإذا كان المرء فردًا مستقلًا؛ فذلك لأنه استثنائي، ومهما كانت المادة التي تؤثر بحيوية في شكل ثقافتنا= فإن على كل إنسان أن يقرر لنفسه أي العناصر منها يدخلها في نسيجه الخاص”.
القاعدة التاسعة: انتفاعك من الكتب إنما هو بقدر حصيلتك من المعرفة والوعي. الكتب المهمة والمؤسِسة يتناسب انتفاعك بها -زيادة ونقصًا- مع المحصول الثقافي، ودرجة الإدراك والوعي التي عندك.

يظهر ذلك جليًا حين تعيد قراءة أحدها بعد مرور سنوات على القراءة الأولى. ستشعر أنك تقرأه لأول مرة، وتتعجب من كم الفوائد التي حصلتها منه، كأن لم تمر عليها بالأمس!

وهذا نفسه هو الذي يدعوك للتخلص من طلب السهولة دائمًا فيما تقرأ؛ فالكتب السهلة التي تشبه بعضها= قلما تعينك على زيادة قدراتك المعرفية والثقافية، ونادرًا ما ترفع درجة الوعي لديك.

ومن فوائد هذه القاعدة أيضًا أن تنتبه إلى مسألة مهمة وهي: هناك شكوى متكررة من مسألة صعوبة النسق اللغوي الكلامي أو الأصولي أو الفكري لبعض الكتب، والواقع أن الأمر باختصار شديد يشبه جدًا تعلم اللغات الأجنبية؛ فتوفر قائمة بالمصطلحات ليس حلًا، لأن هذه المصطلحات في النهاية توظف في سياقات، فحتى لو تعلمت المصطلحات كمفردات سيظل فهم الجمل في تركيبها عندما تستعمل في هذه العلوم= مستعصيًا عليك.

لا توجد هناك كتب تقرأها فتجد نفسك بعدها تتقن اللغة، وإنما هناك ارتقاء بثروتك اللغوية إلى مستوى الإدراك لمفردات وتراكيب اللغة الجديدة.

الأمر ببساطة يعتمد على الدخول في هذه النطاقات المعرفية والقراءة المكثفة فيها، مع الاستعانة بكتب المصطلحات والمقدمات التمهيدية، لكن في النهاية نفس التوغل في هذه النطاقات المعرفية وإنهاء كتاب يتلوه كتاب يتلوهما كتاب= هو السبيل لكشف مناطق الاستغلاق وإنارتها.

لا يهم أن تفهم كل ما تقرأ، فقط اقرأ، وحاول الفهم، وتجاوز ما تفشل محاولات فهمه، وأكمل الكتاب وانتهي منه.

إن الأمر يشبه الإقامة في بلد تتحدث اللغة، والتحدث بها دائما ومحاولة الفهم والتعبير الجزئيين، وبعد فترة من تراكم الملابسة لهذه اللغة ولذاك النطاق المعرفي= ستكتشف فجأة أنك صرت تفهم وتتعامل مع هذا النطاق المعرفي بسلاسة.

 

تحويل القراءة إلى عادة من عادات الحياة، وجعلها جزءًا من روتين العيش اليومي= هو الطريق الأساسي لتجاوز عقبات القراءة وعثراتها.

إن المفتاح هنا هو: الممارسة والقراءة الكثيرة، والاشتغال بهذا الباب المعرفي اشتغالا طويلا ومعايشته والصبر عليه وقراءة مقالات وبحوث حوله، حتى يرتقي مستواك المعرفي والثقافي واللغوي لدرجة تتكلم فيه أنت والفرع المعرفي الذي ينتمي له الكتاب لغة واحدة.
القاعدة العاشرة: لا تنقطع عن القراءة قط، المداومة ولو على القليل.

أحب دائمًا أن أحسب للناس ما يمكنهم تحصيل قراءته لو اقتصروا على ساعة واحدة يوميًا لأن الناس للأسف يغفلون دائمًا عن أثر المداومة على الإنجاز في كافة مجالات الحياة.

إن وضع خطة قصيرة للقراءة تشمل قراءات شهر فحسب، والالتزام بتنفيذها ولو كانت ساعة واحدة يوميًا= سيجني الإنسان ثمرته من تراكم المعرفة والازدياد الثقافي بصورة لم يكن يحسب أنها بالغة في النفع هذا المبلغ.

تحويل القراءة إلى عادة من عادات الحياة، وجعلها جزءًا من روتين العيش اليومي= هو الطريق الأساسي لتجاوز عقبات القراءة وعثراتها.

وأخيرًا وكما يقول دانيال بناك: كل قراءة هي فعل مقاومة، مقاومة لكل العوارض الممكنة، فالقراءة الذكية تنقذ الإنسان من كل شيء حتى من نفسه.