الوصف
” رواية نقوش على جدران المنفى سيرة بديع الزمان سعيد النورس وكيف كانت حياته وما هى دعوته وما آثاره ومولفاته وما هدفه ومقصده.
وقد انتشرت دعوته في أنحاء العالم برسائلة المسماة برسائل النور والبالغة أكثر من مائة وثلاثين رسالة.”
”
من رواية(نقوش على جدران المنفى)
” قلوب عطشى ”
” قسطموني 1936 ”
لم يفطنوا بعد إلى أن القدر قد اتخذه أداة للخلاص.فجددوا أمر النفي كدأبهم دائمًا.وما إن قضى فترة السجن وخرج.. حتى وجده أمامه. هكذا دون مبرر أو سند قانوني.
ومن الطبيعي أن يكون حرًا طليقًا يذهب أنى شاء، ولكن هيهات فسكان كل الأصقاع يتلهفون عليه.
ودون وعي منهم، ولكي تنتشر رسائله بين الناس.. لابد أن يتجدد أمر النفي..هذا الأمر أداة القهر التي يظنون بأنها هي التي ستقصم ظهره, ولكن ما إن يذهب إلى قرية أو مدينة حتى تشتعل فيها جذوة الإيمان.
ويزداد النظام حنقًا عليه..ويتجدد الأمر إلى مكان آخر فتشتعل جذوة الإيمان فيتجدد أمر النفي وهكذا دواليك..
ومكثت الحكومة في رعب منه، وانتاب المسئولين فيها هذيان محموم وتخبط في قراراتهم ضده، على علمهم التام بأنه لم يرتكب جريرة، لكنه هو من سيجعل نور الله يزهو في هذه الأصقاع، لكنهم لا يريدون نورًا، يريدون السفور، وإظهار عورات النساء.. فهذه هي الحضارة بالنسبة لهم.فتح الأبواب لرياح السموم المشبعة بما تشتهي أنفسهم.
وكانت وجهته هذه المرة إلى مدينة “قسطمونى” ففيها بشر مشتاقون, قلوبهم عطشى، وأفئدتهم تستغيث.. قبل أن تتوه في دروب الإلحاد والشتات.
كانت الحراسة عليه مشددة أثناء انتقاله..
سكن الرعب قلوبهم وهم يسوقونه من سجن إلى منفى.
كان أهالي “قسطمونى” ينتظرونه عن بكرة أبيهم.
يتساءلون فيما بينهم:
– متى سيأتي..؟
كان الوقت عصرًا والجو ربيعيًا..وقت تلاقح الثمار والأزهار والأفكار, عندما وصل إلى المخفر في منطقة “سوق العربات”.
استقبله الأهالي بطوفان من الترحاب، واستقبله آمر المخفر بوجه عبوس متجهم.أحاط به العسكر أثناء هبوطه من عربته الخشبية التي تجرها الخيول حتى ساقوه إلى الداخل.الشارع مكتظ بالناس الذين يراقبون ما يحدث، لم يمنحه – جند المخفر – فرصة للراحة أو التقاط أنفاسه.
يتوسط الردهة واقفًا وفي يده حقيبته الصغيرة وعلى كتفيه عباءتة السمراء فوق جلباب ناصع البياض، على رأسه شال أبيض، يخرج من عينيه نظرة ثقيلة حانية, من ينظر في سكون عينيه العميق، لابد وأن تنجلي الغمة عن قلبه ويجد نفسه محبًا لهذا الرجل.
جاء صوت قائد المخفر جهوريا:
– أدخلوه الغرفة الخشبية..!
ساقوه إلى غرفة داخل أروقة الطابق الثاني من المخفر.. كان الحراس يبيتون فيها، لكنهم قد أخلوها استعدادًا لاستقباله، ولكي يكون دائمًا تحت أعينهم – حسب التعليمات – لابد وأن يكون تحت المراقبة دائما، نظرًا لخطورته وتأثيره البالغ على قلوب الناس وأفئدتهم.
فهذا الرجل هو سبب هدايتهم، وهو السد الذي يحجز عنهم رياح السموم.
وكان في الغرفة الخشبية أريكة خشبية متهالكة ولها نافذة عالية لا تسمع سوى بدخول الهواء الرطب لأنها بعيدة عن مصدر الضوء..
أدخلوه إليها فجلس متهالكا, أصدرت الأريكة صريرًا مؤلمًا, يزيد من كآبة الغرفة المطلية بلون داكن مقبض.
يعاني ألم النفس الثقيل.
خرجوا وأغلقوا من خلفهم الباب، وهو يراقب انصرافهم ووقع أقدامهم المدوي على الأرض الصماء في ردهات المخفر الضيقة.”
