الوصف
“«الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة» لأبى الحسن علي بن يوسف بن الحكيم المديوني الكومي الفاسي ( من أهل القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي)، وقد أفرده للحديث عنم الجوانب الفنية والعملية التي تجري داخل دار الضرب، وتناول فيها الخطوات العملية لهذه الصنعة، وشرح أساليبالعمل داخل دار الضرب الرئيسية بفاس حاضرة الدولة المرينية آنذاك.
وقد حظي كتاب «الدوحة المشتبكة» للحكيم بتحقيق جديد للأستاذ الدكتور محمد علي دبور، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، وصدر مؤخرا عن دار «إشراقة».
وعن السيرة الذاتية والمسيرة المهنية لمؤلف الكتاب، يقول الأستاذ الدكتور محمد دبور:”رغم ندرة المعلومات عن مؤلف الدوحة المشتبكة، إلا أننا لا نعدم إشارت مفيدة تكشف لنا شيئًا من جوانب شخصيته وأسرته التى تخصصت فى مجال سك النقود، ومن هذه الإشارات أن جده الحكيم علي بن محمد الكومي المديوني، عمل ناظرًا لدار السكة في عهد السلطان أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني(656ـ685هـ/1258ـ1286م) وظل في هذه المهمة لمدة 50 عاما، حتى كبرت سنه وعجز عن إدارتها، فحدث خلل كبير وفساد في أحوالها، وهذا ما يعكس الخبرة الكبيرة التي اكتسبتها أسرة الحكيم في مجال سك العملة، وثقة سلاطين بني مرين فيه”.
وحيثما كان الأصل ثابتا تتبعه الفروع، فقد نشأ الحفيد “علي بن يوسف” ملتمسًا خطى الجد، ويبدو أنه اكتسب خبرات كبيرة منه، لذا فقد أصبح ناظرا لدار السكة خلال عهد السلطان المريني أبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن (767-774هـ/1366-1372م)، والسلطان السعيد بالله أبي زيان محمد بن عبد العزيز بن أبي الحسن(774-776هـ/1372-1347م).
وحول أهمية الكتاب، يؤكد الدكتور دبور أنه يختص بطرق سك النقود وضربها، والحديث عن دار السكة وضوابطها، ومراحل العمل فيها، وأهم الجوانب الفنية التي تجري داخل دار الضرب الرئيسية بمدينة فاس بالمغرب الأقصى في عصر بني مرين، وكان إطلاع مؤلفه على الخطوات الفنية والعلمية لسك العملات وضربها في إعطاء فرصة الكتابة عن هذا الموضوع بصورة دقيقة ومدهشة في آن واحد، كما تنم المعلومات التقنية التي أوردها أنه كان خبيرًا بهذا الجانب المهم والنادر، بالإضافة إلى كثرة استشهاده بالأدلة الفقهية التي طغت على بعض فصول الكتاب، وهو ما يؤكد ثقافته وسعة إطلاعه وإحاطته بهذا الموضوع من جميع جوانبه.
لقد صدر هذا الكتاب النادر والمهم في مجال سك النقود، والحديث عن دار السكة، ومراحل العمل فيها، عام 1958م، بتحقيق أحد الأعلام البارزين المتخصصين في تاريخ المغرب والأندلس، هو الأستاذ الدكتور حسين مؤنس ـ رحمه الله ـ ، وكانت نشرته الأولى ضمن مقالات المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، وذلك في المجلد السادس، العددان (1ـ2)، ثم خرجت الطبعة الثانية منه في كتاب مستقل عن المعهد عام 1960م، كما صدر أيضا عن إحدى دور النشر بالقاهرة عام 1986م.
وهنا يُجيب الأستاذ الدكتور محمد دبور عن أحد الأسئلة التي تدور في أذهان الكثيرين، ما الداعي إلى تحقيق كتاب سبق وأن حُقق من قبل، خاصة وأن المحقق الأول هو أحد الأعلام الكبار المتخصصين في تاريخ المغرب والأندلس، هو الأستاذ الدكتور حسين مؤنس، فماذا عساه أن يقدم المحقق الثاني بعد المجهود الكبير لعلم من أعلام المغرب والأندلس؟.
يجيب الدكتور دبور على هذا السؤال، قائلا:”هو سؤال منطقي لا غبار عليه، لكن الأستاذ الدكتور حسين مؤنس حين حقق هذا الكتاب منذ 63 عاما، على نسخة وحيدة مبتورة الأول، كثيرة التحريف والتصحيف والسقط، وقد أشار بنفسه إلى هذا في أكثر من موضع، وأشار إلى أن ناسخ المخطوطة التي اعتمد عليها فاق جميع الناسخين في التحريف والتصحيح، فينسى ويُسقط ويُهمل، ويُحرف كيف شاء، وكانت تحريفاته مُلبسة ومحيرة، واخطاؤه متكررة، ناتجة عن الاستملاء، وعدم التحقيق، أو الإهمال، أو غياب الذهن، فضلا عن العبارات التي أسقطها، والكلمات التي أكلها، والشعر الذي نثره وحرفه، والمصلحات التي شوهها”.
هذا السبب، يُضاف إليه أن الدكتور مؤنس في طبعتيه اللاحقتين للكتاب، ورغم اعتماده على نسختين أخريين من المخطوط ظهرتا في المغرب الشقيق، قام من خلالهما بعمل مستدرك على نص كتاب الدوحة، لكنهما لم يضيفا أي جديد طرأ على النص الأصلي.
ورغم الجهود المشكورة التي بذلها الدكتور مؤنس في محاولة ترميم أماكن السقط والتحريف، لكن بقي جزء كبير من الأغلاط لأسباب لم يكن في مقدوره التغلب عليها، إما للتشويه المُفرط الذي حل بالكلمة والعبارة من ناسخ المخطوط، أو بسبب عدم التوفيق في قراءة العديد من الكلمات؛ مما يوقع القراء والباحثين المستخدمين للنص في أخطاء فنية تتعلق بسك العملة، أو أخطاء تاريخية بسبب تصحيف بعض التواريخ المهمة في بعض الأحيان.
وفى تصديه لتلك التصحيفات، ومحاولة منه لترميم النص التاريخي لكتاب “الدوحة المشتبكة” أحصى الدكتور دبور ما يزيد عن 200 تصحيف في ثنايا الكتاب، جمعها في جداول، بيّن فيها الخطأ والصواب، مع ذكر موضعها في صفحات الكتاب.
وأوضح أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة أن من بين دواعي إعادة تحقيق الكتاب، ظهور أغلب الأصول أو المصادر التاريخية التي اعتمد عليها صاحب “الدوحة المشتبكة” ونقل عنها بعد أن كانت مخطوطة أو مفقودة، فصارت مطبوعة ومحققة، فصارت تلكم النصوص مطابقة للأصل الذي أخذ عنه الحكيم، ومن بين هذه الأصول: تفسير الفخر الرازي(ت606هـ/1209م)، وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/ 1038م)، والجماهر في معرفة الجواهر لأبي الريحان البيروني (ت 440هـ/ 1048م)، ومقالة في مقادير المكاييل الشرعية لابن البنّاء المراكشي (ت721هـ/1321م) وغيرها الكثير من المصادر.
بهذه الصورة انطلق الأستاذ الدكتور دبور في ترميم هذا النص التاريخي النادر من خلال تحقيقه الجديد.
أما فيما يتصل بالتحقيق الجديد لكتاب “الدوحة المشتبكة”، فقد أكد الأستاذ الدكتور محمد دبور أنه اعتمد على نسختين من مخطوطين مختلفين عن مخطوط الدكتور مؤنس ـ رحمه الله ـ ، الأولى نسخة المكتبة المركزية بباريس، والمحفوظة تحت رقم (ARABE 7005 )، وتقع في 70 ورقة، كُتبت بخد مغربي واضح بالحبر الأسود، وتاريخ نسخها 1030هـ ، لكن اسم الناسخ مطموس، أما النسخة الأخرى، فهى نسخة جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، والمحفوطة تحت رقم (8368) بالمكتبة المركزية/ قسم المخطوطات، وتعود ملكيتها لخير الدين الزركلي، وكُتبت بالخط المغربي، بالحبر الأزرق، بينما كُتبت عناوين الأبواب والفصول بالحبر الأحمر، وفُرغ من نسخها يوم الثلاثاء 29 من شعبان سنة 1030هـ دون ذكر لاسم الناسخ”.
وبتحديد النسختين المذكورتين من “الدوحة المشتبكة”، شرع الدكتور دبور في إعادة بناء هذا النص التاريخي وترميم ما اعتراه من أخطاء وتصحيفات، فاعتمد نسخة باريس نسخة أصلية لتحقيق الكتاب، مع مطابقتها بنسخة الزركلي، والتي منحها مصطلح “ك”، وقام بمراعاة النص الأصلي، فأبقى على الالتزام بالرسم الإملائي المعروف، وعلامات الترقيم المؤدية إلى إظهار المعاني الصحيحة، وضبط النص بالشكل ضبطًا صحيحًا، خاصة فيما يتعلق بالأعلام والأماكن الجغرافية، وبيان الأخطاء النحوية التي وردت في المتن مع إثبات الصحيح في الهامش.
واشتمل التحقيق الجديد على التعريف بالبلدان والأماكن تعريفا موجزا، من خلال الاستعانة بكتب الجغرافيا والبلدان المختلفة، وعزو آيات القرآن الكريم إلى سورها وبيان أرقامها، وتخريج الأحاديث النبوية بقدر الإمكان، وضبط أبيات الشعر ضبطا كاملاً، وبيان بحورها، ونسبتها إلى قائلها إذا لم يُشر المؤلف إلى ذلك، واضطر المحقق أن يضيف بعض الألفاظ وحروف العطف التي يقتضيها السياق بين حاصرتين، والإشارة إلى تلك الزيادة في حواشي الكتاب، فضلا عن التعريف بالأعلام المذكورين في ثنايا الكتاب من خلال كتب الطبقات والتراجم، مع شرح المصطلحات العلمية الغريبة التي وردت في متن الكتاب من خلال الاستعانة ببعض القواميس والمعاجم المتخصصة في هذا المجال، فضلا عن وضع الفهارس الفنية الكاشفة التي تُيسر على الباحثين الوصول إلى ما يحتاجونه من موضوعات الكتاب، ومصطلحاته وأعلامه.
وينتهي الدكتور دبور من تحقيق الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة) لأبي الحسن علي بن يوسف الحكيم الفاسي، بقوله:”لقد اجتهدت في قراءته وضبطه والتعليق عليه وإكمال نقصه؛ ليكون أيسر في المطالعة، والرجوع إليه، والاستفادة منه على الوجه الصحيح، آملا أن أكون قد وُفقت فيما قصدت إليه من بذل الجهد وشدة العناية والاهتمام، راجيًا من مطالعيه إسداء النصح والتنبيه على ما فيه من هفوات، والتجاوز عما تسرب إليه من هنات، فالكمال لله وحده”. “